2024 March 28 - 18 رمضان 1445
فتنة الوهابية
رقم المطلب: ٢٦٧١ تاریخ النشر: ٠٢ ذیحجه ١٤٤٠ - ١٣:٤٨ عدد المشاهدة: 1930
المقالات » عام
فتنة الوهابية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة المؤلف هو أحمد بن زين بن أحمد دحلان المكي ، الشافعي . فقيه ، مؤرخ ، شارك في أنواع من العلوم ، مفتي السادة الشافعية بمكة المعظمة ، وشيخ الإسلام . ولد بمكة سنة 1231 ه‍ وتوفي بالمدينة في المحرم سنة 1304 ه‍ . وله مؤلفات كثيرة مطبوعة متداولة منها : الأزهار الزينية في شرح متن الألفية ، وتاريخ الدول الإسلامية بالجداول المرضية ، وفتح الجواد المنان علي العقيدة المسماة بفيض الرحمن ، والدرر السنية في الرد علي الوهابية ، ونهل العطشان علي فتح الرحمن ، في تجويد القرآن ، وخلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام ، والفتوحات الإسلامية ، إلي غير ذلك . ومنها هذا الكتيب الذي بين يدي القارئ ، آملين أن يستفيد القراء منه والله من وراء القصد .

فتنة الوهابية إعلم أن السلطان سليم الثالث

) 1204 - 1222 ه‍ ) حدث في مدة سلطنته فتن كثيرة منها ما تقدم ذكره ، ومنها فتنة الوهابية التي كانت في الحجاز حتي استولوا علي الحرمين ومنعوا وصول الحج الشامي والمصري ، ومنها فتنة الفرنسيين لما استولوا علي مصر من سنة ثلاث عشرة ( 1213 ) إلي سنة ست عشرة ( 1216 ) ولنذكر ما يتعلق بهاتين الفتنتين علي سبيل الاختصار لأن كلا منهما مذكور تفصيلا في التواريخ وأفرد كل منهما بتأليف رسائل مخصوصة ، أما فتنة الوهابية فكان ابتداء القتال فيما بينهم وبين أمير مكة مولانا الشريف غالب بن مساعد وهو نائب من جهة السلطنة العلية علي الأقطار الحجازية وابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف وكان ذلك في مدة سلطنة مولانا السلطان سليم الثالث ابن السلطان مصطفي الثالث بن أحمد ( وأما ابتداء أول ظهور الوهابية ) فكان قبل ذلك بسنين كثيرة وكانت قوتهم وشوكتهم في بلادهم أولا ، ثم كثر شرهم

وتزايد ضررهم واتسع ملكهم وقتلوا من الخلائق ما لا يحصون واستباحوا أموالهم وسبوا نساءهم وكان مؤسس مذهبهم الخبيث محمد بن عبد الوهاب وأصله من المشرق من بني تميم وكان من المعمرين فكاد يعد من المنظرين لأنه عاش قريب مائة سنة حتي انتشر عنه ضلالهم ، كانت ولادته سنة ألف ومائة وإحدي عشرة وهلك سنة ألف ومائتين ، وأرخه بعضهم بقوله : ( بدا هلاك الخبيث ) 1206 وكان في ابتداء أمره من طلبة العلم بالمدينة المنورة علي ساكنها أفضل الصلاة والسلام وكان أبوه رجلا صالحا من أهل العلم وكذا أخوه الشيخ سليمان وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما يشاهدونه من أقواله وأفعاله ونزعاته في كثير من المسائل ، وكانوا يوبخونه ويحذرون الناس منه فحقق الله فراستهم فيه لما ابتدع ما ابتدعه من الزيغ والضلال الذي أغوي به الجاهلين وخالف فيه أئمة الدين وتوصل بذلك إلي تكفير المؤمنين فزعم أن زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم والتوسل به وبالأنبياء والأولياء والصالحين وزيارة قبورهم شرك ، وأن نداء النبي صلي الله عليه وسلم عند التوسل به شرك ، وكذا نداء غيره من الأنبياء والأولياء والصالحين عند التوسل بهم شرك ، وأن من أسند شيئا لغير الله ولو علي سبيل المجاز العقلي يكون مشركا نحو نفعني هذا الدواء ، وهذا الولي الفلاني عند ( صفحه 5 ) التوسل به في شئ ، وتمسك بأدلة لا تنتج له شيئا من مرامه ، وأتي بعبارات مزورة زخرفها ولبس بها علي العوام حتي تبعوه ، وألف لهم في ذلك رسائل حتي اعتقدوا كفر أكثر أهل التوحيد ، واتصل بأمراء المشرق أهل الدرعية ومكث عندهم حتي نصروه وقاموا بدعوته وجعلوا ذلك وسيلة إلي تقوية ملكهم واتساعه ، وتسلطوا علي الأعراب وأهل البوادي حتي تبعوهم وصاروا جندا لهم بلا عوض وصاروا يعتقدون أن من لم يعتقد ما قاله ابن عبد الوهاب فهو كافر مشرك مهدر الدم والمال ، وكان ابتداء ظهور أمره سنة ألف ومائة وثلاث وأربعين ، وابتداء انتشاره من بعد الخمسين ومائة وألف . وألف العلماء رسائل كثيرة للرد عليه حتي أخوه الشيخ سليمان وبقية مشايخه وكان ممن قام بنصرته وانتشار دعوته من أمراء المشرق محمد بن سعود أمير الدرعية وكان من بني حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ، ولما مات محمد بن سعود قام بها ولده عبد العزيز بن محمد بن سعود ، وكان كثير من مشايخ ابن عبد الوهاب بالمدينة يقولون سيضل هذا أو يضل الله به من أبعده وأشقاه فكان الأمر كذلك ، وزعم محمد بن عبد الوهاب أن مراده بهذا المذهب الذي ابتدعه إخلاص التوحيد والتبري من الشرك وأن الناس كانوا علي شرك منذ ستمائة سنة وأنه جدد للناس دينهم وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين علي أهل التوحيد كقوله تعالي ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلي يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) وكقوله تعالي ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا

 )يضرك ) وكقوله تعالي ( والذين يدعون من لا يستجيب لهم إلي يوم القيامة ) وأمثال هذه الآيات في القرآن كثيرة : فقال محمد بن عبد الوهاب من استغاث بالنبي صلي الله عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين أو ناداه أو سأله الشفاعة فإنه مثل هؤلاء المشركين ويدخل في عموم هذه الآيات ، وجعل زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين مثل ذلك ،وقال في قوله تعالي حكاية عن المشركين في عبادة الأصنام ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي ) إن المتوسلين مثل هؤلاء المشركين الذين يقولون ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي ) قال : فإن المشركين ما اعتقدوا في الأصنام أنها تخلق شيئا بل يعتقدون أن الخالق هو الله تعالي بدليل قوله تعالي ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) و ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) فما حكم الله عليهم بالكفر والإشراك إلا لقولهم ليقربونا إلي الله زلفي فهؤلاء مثلهم ، ومما ردوا به عليه في الرسائل المؤلفة للرد عليه أن هذا استدلال باطل فإن المؤمنين ما اتخذوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا الأولياء آلهة وجعلوهم شركاء لله بل إنهم يعتقدون أنهم عبيد الله مخلوقون ولا يعتقدون أنهم مستحقون العبادة . وأما المشركون الذين نزلت فيهم هذه الآيات فكانوا يعتقدون استحقاق أصنامهم الألوهية ويعظمونها تعظيم الربوبية وإن كانوا يعتقدون أنها لا تخلق شيئا ، وأما المؤمنون فلا يعتقدون في الأنبياء والأولياء استحقاق العبادة والألوهية ولا يعظمونهم تعظيم الربوبية بل

يعتقدون أنهم عباد الله وأحباؤه الذين اصطفاهم واجتباهم وببركتهم يرحم عباده فيقصدون بالتبرك بهم رحمة الله تعالي ، ولذلك شواهد كثيرة من الكتاب والسنة . فاعتقاد المسلمين أن الخالق الضار والنافع المستحق العبادة هو الله وحده ولا يعتقدون التأثير لأحد سواه ، وأن الأنبياء والأولياء لا يخلقون شيئا ولا يملكون ضرا ولا نفعا وإنما يرحم الله العباد ببركتهم فاعتقاد المشركين استحقاق أصنامهم العبادة والألوهية هو الذي أوقعهم في الشرك لا مجرد قولهم ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله ) لأنهم لما أقيمت عليه الحجة بأنها لا تستحق العبادة وهم يعتقدون استحقاقها العبادة قالوا معتذرين ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي ) فكيف يجوز لابن عبد الوهاب ومن تبعه أن يجعلوا المؤمنين الموحدين مثل أولئك المشركين الذين يعتقدون ألوهية الأصنام ؟ فجميع الآيات المتقدمة وما كان مثلها خاص بالكفار والمشركين ولا يدخل فيه أحد من المؤمنين . روي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلي الله عليه وسلم في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلي آيات نزلت في الكفار فحملوها علي المؤمنين ، وفي رواية عن ابن عمر أيضا أنه صلي الله عليه وسلم قال " أخوف ما أخاف علي أمتي رجل يتأول القرآن بصنعه في غير موضعه " فهو وما قبله صادق علي هذه الطائفة ولو كان شئ مما صنعه المؤمنون من التوسل وغيره شركا ما كان يصدر من النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وخلفها ففي الأحاديث الصحيحة أنه صلي الله

عليه وسلم كان من دعائه " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك " وهذا توسل لا شك فيه وكان يعلم هذا الدعاء أصحابه ويأمرهم بالإتيان به وبسط ذلك طويل مذكور في الكتب وفي الرسائل التي في الرد علي ابن عبد الوهاب ، وصح عنه أنه صلي الله عليه وسلم لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنها ألحدها صلي الله عليه وسلم في القبر بيده الشريفة وقال " اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي إنك أرحم الراحمين " وصح أنه صلي الله عليه وسلم سأله أعمي أن يرد الله بصره بدعائه فأمره بالطهارة وصلاة ركعتين ثم يقول " اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلي ربي في حاجتي لتقضي اللهم شفعه في " ففعل فرد الله عليه بصره ، وصح أن آدم عليه السلام توسل بنبينا صلي الله عليه وسلم حين أكل من الشجرة لأنه لما رأي اسمه صلي الله عليه وسلم مكتوبا علي العرش وعلي غرف الجنة وعلي جباه الملائكة سأل عنه فقال الله له هذا ولد من أولادك لولاه ما خلقتك ، فقال اللهم بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد فنودي يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماء والأرض لشفعناك ، وتوسل عمر بن الخطاب بالعباس رضي الله عنه . لما استسقي الناس ، وغير ذلك مما هو مشهور فلا حاجة إلي الإطالة بذكره والتوسل الذي في حديث الأعمي قد استعمله الصحابة والسلف بعد وفاته صلي الله عليه وسلم وفيه لفظ يا محمد وذلك نداء عند التوسل ومن تتبع كلام الصحابة

والتابعين يجد شيئا كثيرا من ذلك كقول بلال بن الحارث الصحابي رضي الله عنه عند قبر النبي صلي الله عليه وسلم " يا رسول الله إستسق لأمتك " كالنداء الوارد عن النبي صلي الله عليه وسلم عند زيارة القبور . وممن ألف في الرد علي ابن عبد الوهاب أكبر مشايخه وهو الشيخ محمد بن سليمان الكردي مؤلف حواشي شرح ابن حجر علي متن بأفضل فقال من جملة كلامه يا ابن عبد الوهاب إني أنصحك لله تعالي أن تكف لسانك عن المسلمين فإن سمعت من شخص أنه يعتقد تأثير ذلك المستغاث به من دون الله فعرفه الصواب وأبن له الأدلة علي أنه لا تأثير لغير الله فإن أبي فكفره حينئذ بخصوصه ولا سبيل لك إلي تكفير السواد الأعظم من المسلمين ، وأنت شاذ عن السواد الأعظم فنسبة الكفر إلي من شذ عن السواد الأعظم أقرب لأنه اتبع غير سبيل المؤمنين قال تعالي ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي ونصله جهنم وساءت مصيرا ) وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ا ه‍ . وأما زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم فقد فعلها الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف والخلف وجاء في فضلها أحاديث أفردت بالتأليف ومما جاء في النداء لغير الله تعالي من غائب وميت وجماد قوله صلي الله عليه وسلم " إذا أفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا فإن لله عبادا يجيبونه " وفي حديث آخر " إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد عونا وهو بأرض ليس فيها أنس فليقل يا

عباد الله أعينوني وفي رواية أغيثوني فإن لله عبادا لا ترونهم " وكان النبي صلي الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك الله وكان صلي الله عليه وسلم إذا زار قال السلام عليكم يا أهل القبور وفي التشهد الذي يأتي به كل مسلم في كل صلاة صورة النداء في قوله " السلام عليك أيها النبي " والحاصل أن النداء والتوسل ليس في شئ منهما ضرر إلا إذا اعتقد التأثير لمن ناداه أو توسل به ، ومتي كان معتقدا أن التأثير لله لا لغير الله فلا ضرر في ذلك ، وكذلك إسناد فعل من الأفعال لغير الله لا يضر إلا إذا اعتقد التأثير ومتي لم يعتقد التأثير فإنه يحمل علي المجاز العقلي كقوله نفعني هذا الدواء أو فلان الولي فهو مثل قوله : أشبعني هذا الطعام ، وأرواني هذا الماء ، وشفاني هذا الدواء فمتي صدر ذلك من مسلم فإنه يحمل علي الإسناد المجازي والإسلام قرينة كافية في ذلك فلا سبيل إلي تكفير أحد بشئ من ذلك ويكفي هذا الذي ذكرناه إجمالا في الرد علي ابن عبد الوهاب ومن أراد بسط الكلام فليرجع إلي الرسائل المؤلفة في ذلك وقد لخصت ما فيها في رسالة مختصرة فينظرها من أرادها ، ولما قام ابن عبد الوهاب ومن أعانه بدعوتهم الخبيثة التي كفروا بسببها المسلمين ملكوا قبائل الشرق قبيلة بعد قبيلة ، ثم اتسع ملكهم فملكوا اليمن والحرمين وقبائل الحجاز وبلغ ملكهم قريبا من الشام فإن ملكهم وصل إلي المزيريب وكانوا في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنا منهم أنهم يفسدون عقائد علماء الحرمين ويدخلون عليهم الشبهة بالكذب والمين ، فلما وصلوا إلي ( صفحه 11 ) الحرمين وذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم وما تملكوا به رد عليهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها ، وتحقق لعلماء الحرمين جهلهم وضلالهم ووجدوهم ضحكة ومسخرة ، كحمر مستنفرة ، فرت من قسورة ونظروا إلي عقائدهم فوجدوها مشتملة علي كثير من المكفرات فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضي الشرع بمكة تتضمن الحكم بكفرهم بتلك العقائد ليشتهر بين الناس أمرهم ، فيعلم بذلك الأول والآخر ، وكان ذلك في مدة إمارة الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفي سنة خمس وستين ومائة وألف ، وأمر بحبس أولئك الملحدة فحبسوا وفر بعضهم إلي الدرعية فأخبرهم بما شاهدوا فازدادوا عتوا واستكبارا وصار أمراء مكة بعد ذلك يمنعون وصولهم للحج فصاروا يغيرون علي بعض القبائل الداخلين تحت طاعة أمير مكة ثم انتشب القتال بينهم وبين أمير مكة مولانا الشريف غالب بن مساعد بن سعيد بن سعد بن زيد وكان ابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف ووقع بينهم وبينه وقائع كثيرة قتل فيها خلائق كثيرون ولم يزل أمرهم يقوي وبدعتهم تنتشر إلي أن دخل تحت طاعتهم أكثر القبائل والعربان الذين كانوا تحت طاعة أمير مكة . وفي سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف ساروا بجيوش كثيرة حتي نازلوا الطائف وحاصروا أهله في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة ، ثم تملكوه وقتلوا أهله رجالا ونساء وأطفالا ولا نجا منهم إلا القليل ونهبوا جميع أموالهم ثم أرادوا

المسير إلي مكة فعلموا أن مكة في ذلك الوقت فيها كثير من الحجاج ويقدم إليها الحاج الشامي والمصري فيخرج الجميع لقتالهم فمكثوا في الطائف إلي أن انقضي شهر الحج وتوجه الحجاج إلي بلادهم وساروا بجيوشهم يريدون مكة ولم يكن للشريف غالب قدرة علي قتال جيوشهم فنزل إلي جدة فخاف أهل مكة أن يفعل الوهابية معهم مثل ما فعلوا مع أهل الطائف فأرسلوا إليهم وطلبوا منهم الأمان لأهل مكة فأعطوهم الأمان ودخلوا مكة ثامن محرم من السنة الثامنة عشرة بعد

المائتين والألف ومكثوا أربعة عشر يوما يستتيبون الناس ويجددون لهم الإسلام علي زعمهم ويمنعونهم من فعل ما يعتقدون أنه شرك كالتوسل وزيارة القبور ، ثم ساروا بجيوشهم إلي جدة لقتال الشريف غالب فلما أحاطوا بجدة رمي عليهم بالمدافع والقلل فقتل كثيرا منهم ولم يقدروا علي تملك جدة فارتحلوا بعد ثمانية أيام ورجعوا إلي بلادهم وجعلوا لهم عسكرا بمكة وأقاموا لهم أميرا فيها وهو الشريف عبد المعين أخو الشريف غالب وإنما قبل أمرهم ليرفق بأهل مكة ويدفع ضرر أولئك الأشرار عنهم ، وفي شهر ربيع الأول من السنة المذكورة سار الشريف غالب من جدة ومعه والي جدة من طرف السلطنة العلية وهو شريف باشا ومعهما العساكر فوصلوا إلي مكة وأخرجوا من كان بها من عساكر الوهابية ورجعت إمارة مكة للشريف غالب ثم بعد ذلك تركوا مكة واشتغلوا بقتال كثير من القبائل وصار الطائف بأيديهم وجعلوا عليه أميرا ( عثمان المضايفي ) فصار هو وبعض جنودهم يقاتلون القبائل التي ( صفحه 13 ) في أطراف مكة والمدينة ويدخلونهم في طاعتهم حتي استولوا عليهم وعلي جميع الممالك التي كانت تحت طاعة أمير مكة فتوجه قصدهم بعد ذلك للاستيلاء علي مكة فساروا بجيوشهم سنة عشرين وحاصروا مكة وأحاطوا بها من جميع الجهات وشددوا الحصار عليها وقطعوا الطرق ومنعوا الميرة عن مكة فاشتد الحصار علي أهل مكة حتي أكلوا الكلاب لشدة الغلاء وعدم وجود القوت فاضطر الشريف غالب إلي الصلح معهم وتأمين أهل مكة فوسط أناسا بينه وبينهم فعقدوا الصلح علي شروط فيها رفق بأهل مكة فمن تلك الشروط أن إمارة مكة تكون له فتم الصلح ودخلوا مكة في أواخر ذي القعدة سنة عشرين وتملكوا المدينة المنورة علي ساكنها أفضل الصلاة والسلام وانتهبوا الحجرة وأخذوا ما فيها من الأموال ، وفعلوا أفعالا شنيعة ، وجعلوا علي المدينة أميرا منهم " مبارك بن مضيان " ، واستمر حكمهم في الحرمين سبع سنين ومنعوا دخول الحج الشامي والمصري مع المحامل مكة ، وصاروا يصنعون للكعبة المعظمة ثوبا من العباء القيلان الأسود ، وأكرهوا الناس علي الدخول في دينهم ومنعوهم من شرب التنباك ومن فعل ذلك وأطلعوا عليه وعزروه بأقبح التعزير ، وهدموا القبب التي علي قبور الأولياء . وكانت الدولة العثمانية في تلك السنين في ارتباك كثير وشدة قتال مع النصاري وفي اختلاف في خلع السلاطين وقتلهم كما سنقف عليه إن شاء الله تعالي ، ثم صدر الأمر السلطاني 1 لصاحب مصر محمد علي باشا

بالتجهيز لقتال الوهابية وكان ذلك في سنة 1226 فجهز محمد علي باشا جيشا فيه عساكر كثيرة جعل عليهم بفرمان سلطان ولده طوسون باشا فخرجوا من مصر في رمضان من السنة المذكورة ولم يزالوا سائرين برا وبحرا حتي وصلوا إلي ينبع فملكوه من الوهابية ، ثم لما وصلت العساكر إلي الصفرا والحديدة وقع بينهم وبين العرب الذين في الحربية قتال شديد بين الصفرا والحديدة وكانت تلك القبائل كلها في طاعة الوهابي وانضم إليها قبائل كثيرة فهزموا ذلك الجيش وقتلوا كثيرا منهم وانتهبوا جميع ما كان معهم وكن ذلك في شهر ذي الحجة سنة 26 ولم يرجع من ذلك الجيش إلي مصر إلا القليل فجهز جيشا غيره سنة سبع وعشرين وعزم محمد علي باشا علي التوجه إلي الحجاز بنفسه وتوجهت العساكر قبله في شعبان في غاية القوة والاستعداد وكان معهم من المدافع ثمانية عشر مدفعا وثلاثة قنابل فاستولت العساكر علي ما كان بيد الوهابية وملكوا الصفراء والحديدة وغيرهما في رمضان بلا قتال بل بالمخادعة ومصانعة العرب بإعطاء الدراهم الكثيرة حتي أنهم أعطوا شيخ مشايخ حرب مائة ألف ريال وأعطوا شيخا من صغار مشايخ حرب أيضا ثمانية عشر ألف ريال ورتبوا لهم علائف تصرف لهم كل شهر ، وكان ذلك كله بتدبير شريف مكة الشريف غالب وهو في الظاهر تحت طاعة الوهابي ، وأما المرة الأولي التي هزموا فيها فلم يكونوا كاتبوا الشريف غالب في ذلك حتي يكون الأمر بتدبيره ودخلت العساكر المدينة المنورة في أواخر ذي القعدة ، ولما جاءت الأخبار إلي

مصر صنعوا زينة ثلاثة أيام وأكثروا من الشنك وضرب المدافع وأرسلوا بشائر لجميع ملوك الروم واستولت العساكر السائرة من طريق البحر علي جدة في أوائل المحرم سنة ثمان وعشرين ثم طلعوا إلي مكة واستولوا عليها أيضا ، وكل ذلك بلا قتال بتدبير الشريف سرا ، ولما وصلت العساكر إلي جدة فر من كان بمكة من عساكر الوهابية وأمرائهم ، وكان سعود أمير الوهابية حج في سنة سبع وعشرين ثم ارتحل إلي الطائف ، ثم إلي الدرعية ولم يعلم باستيلاء العساكر السلطانية علي المدينة إلا بعد ذلك ثم لما وصل إلي الدرعية علم باستيلائهم علي مكة ثم الطائف ولما وصلت العساكر إلي جدة ومكة فر من الطائف أميرها عثمان المضايفي وفر من كان بها من عساكر الوهابية وأمرائهم . وفي شهر ربيع الأول من سنة ثمان وعشرين أرسل محمد علي باشا مبشرين إلي دار السلطنة ومعهم المفاتيح وكتبوا إليهم أنها مفاتيح مكة والمدينة وجدة والطائف فدخلوا بها دار السلطنة بموكب حافل ووضعوا المفاتيح علي صفائح الذهب والفضة وأمامهم البخورات في مجامر الذهب والفضة وخلفهم الطبول والزمور وعملوا لذلك زينة وشنكا ومدافع وخلعوا علي من جاء بالمفاتيح وزادوا في رتبة محمد علي باشا وبعثوا له أطواخا وعدة أطواخ بولايات لمن يختار تقليده ، وفي شهر شوال سنة ثمان وعشرين توجه محمد علي باشا بنفسه إلي الحجاز وقبل توجهه من مصر قبض الشريف غالب علي عثمان المضايفي الذي كان أميرا علي الطائف للوهابية ، وكان من أهل أكبر أعوانهم وأمرائهم

فزنجره بالحديد وبعثه إلي مصر فوصل في ذي القعدة بعد توجه الباشا إلي الحجاز ثم أرسل إلي دار السلطنة فقتلوه ووصل محمد علي باشا في ذي القعدة إلي مكة وقبض علي الشريف غالب ابن مساعد وبعثه إلي دار السلطنة وأقام لشرافة مكة ابن أخيه الشريف يحيي بن سرور بن مساعد ، وفي شهر محرم من سنة 29 بعثوا إلي السلطنة مبارك بن مضيان الذي كان أميرا علي المدينة المنورة للوهابية فطافوا به في القسطنطينية في موكب ليراه الناس ثم قتلوه وعلقوا رأسه علي باب السرايا وفعل مثل ذلك بعثمان المضايفي ، وأما الشريف غالب فأرسلوه إلي سلانيك ويقي بها مكرما إلي أن توفي سنة إحدي وثلاثين ودفن بها وبني عليه قبة تزار ، ومدة إمارته علي مكة ست وعشرون سنة . ثم إن محمد علي باشا وجه كثيرا من العساكر إلي تربة وبيشة وبلاد غامد وزهران وبلاد عسير لقتال طوائف الوهابية وقطع دابرهم ثم سار بنفسه في أثرهم في شعبان سنة تسع وعشرين ووصل إلي تلك الديار وقتل كثيرا منهم وأسر كثيرا وخرب ديارهم ، وفي شهر جمادي الأولي سنة تسع وعشرين هلك سعود أمير الوهابية وقام بالملك بعده ولده عبد الله ورجع محمد علي باشا من تلك الديار التي وصلها من ديار الوهابية عند إقبال الحج وحج ومكث بمكة إلي رجب سنة ثلاثين ثم توجه إلي مصر وترك بمكة حسن باشا ووصل الباشا إلي مصر في منتصف رجب سنة ثلاثين ومائتين وألف فتكون إقامته بالحجاز سنة وسبعة أشهر ، وما رجع إلي مصر إلا بعد أن مهد أمور الحجاز ، وأباد

طوائف الوهابية التي كانت منتشرة في جميع قبائل الحجاز والشرق وبقي منهم بقية بالدرعية أميرهم عبد الله بن سعود فجهز محمد علي باشا لقتاله جيشا وأرسله تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا ، وكان عبد الله بن سعود قبل ذلك يكاتب مع طوسون باشا بن محمد علي باشا حين كان بالمدينة وعقد معه صلحا علي بقاء إمارته ودخوله تحت طاعة محمد علي باشا فلم يرض محمد علي باشا بهذا الصلح فجهز ولده إبراهيم باشا وجعل أمر العساكر إليه ، وكان ابتداء ذلك في أواخر سنة إحدي وثلاثين فوصل إلي الدرعية سنة اثنتين وثلاثين ونازل بجيوشه عبد الله بن سعود في ذي القعدة سنة 33 ، ولما جاءت الأخبار إلي مصر ضربوا لذلك ألف مدفع وفعلوا شنكا وزينوا مصر وقراها سبعة أيام ، وكان محمد علي باشا له اهتمام كبير في قتال الوهابية وأنفق في ذلك خزائن من الأموال حتي أخبر بعض من كان يباشر خدمته أنهم دفعوا في دفعة من الدفعات لأجرة تحميل بعض الذخائر خمسة وأربعين ألف ريال هذا في مرة من المرات كان ذلك الحمل من الينبع إلي المدينة عن أجرة كل بعير ست ريالات دفع نصفها أمير ينبع والنصف الآخر أمير المدينة وعند وصول الحمل من المدينة إلي الدرعية كان أجر تلك الحملة فقط مائة وأربعين ألف ريال وقبض إبراهيم باشا علي عبد الله بن سعود وبعث به وكثير من أمرائهم إلي مصر فوصل في سابع عشر محرم سنة أربع وثلاثين وصنعوا له موكبا حافلا يراه الناس وأركبوه علي هجين وازدحم الناس للتفرج عليه ، ولما دخل علي محمد علي باشا قام

له وقابله بالبشاشة وأجلسه بجانبه وحادثه ، وقال له الباشا ما هذه المطاولة فقال الحرب سجال قال وكيف رأيت ابني إبراهيم باشا قال ما قصر وبذل همته ونحن كذلك حتي كان ما قدره الله تعالي فقال له الباشا أنا أترجي فيك عند مولانا السلطان فقال المقدر يكون ثم ألبسه خلعة وأنصرف إلي بيت إسماعيل باشا ببولاق ، وكان بصحبة عبد الله ابن سعود صندوق صغير مصفح فقال الباشا له . ما هذا ؟ فقال هذا ما أخذه أبي من الحجرة أصحبه معي إلي السلطان ، فأمر الباشا بفتحه فوجدوا فيه ثلاثة مصاحف من خزائن الملوك لم ير الراؤون أحسن منها ومعها ثلاثمائة حبة من اللؤلؤ الكبار وحبة زمرد كبيرة وشريط من الذهب ، فقال له الباشا الذي أخذتموه من الحجرة أشياء كثيرة غير

هذا فقال هذا الذي وجدته عند أبي فإنه لم يستأصل كل ما كان في الحجرة لنفسه بل أخذه العرب وأهل المدينة وأغاوات الحرم وشريف مكة فقال الباشا صحيح وجدنا عند الشريف أشياء من ذلك ثم أرسلوا عبد الله بن سعود إلي دار السلطنة ورجع إبراهيم باشا من الحجاز إلي مصر في شهر المحرم من سنة 35 بعد أن أخرب الدرعية خرابا كليا حتي تركوا سكناها . ولما وصل عبد الله بن سعود إلي دار السلطنة في شهر ربيع الأول طافوا به البلد ليراه الناس ثم قتلوه عند باب همايون وقتلوا أتباعه أيضا في نواح متفرقة . هذا حاصل ما كان في قصة الوهابي بغاية الاختصار ولو بسط
الكلام في كل قضية لطال ، وكانت فتنتهم من المصائب التي أصيب بها أهل الإسلام فإنهم سفكوا كثيرا من الدماء ، وانتهبوا كثيرا من الأموال ، وعم ضررهم ، وتطاير شررهم فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وكثير من أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم فيها التصريح بهذه الفتنة كقوله صلي الله عليه وسلم " يخرج أناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق " وهذا الحديث جاء بروايات كثيرة بعضها في صحيح البخاري وبعضها في غيره لا حاجة لنا إلي الإطالة بنقل تلك الروايات ولا لذكر من خرجها لأنها صحيحة مشهورة ففي قوله سيماهم التحليق تصريح بهذه الطائفة لأنهم كانوا يأمرون كل من اتبعهم أن يحلق رأسه ولم يكن هذا الوصف لأحد من طوائف الخوارج والمبتدعة الذين كانوا قبل زمن هؤلاء ، وكان السيد عبد الرحمن الأهدل مفتي زبيد يقول لا حاجة إلي التأليف في الرد علي الوهابية بل يكفي في الرد عليهم قوله صلي الله عليه وسلم سيماهم التحليق فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم . واتفق مرة أن امرأة أقامت الحجة علي ابن الوهاب لما أكرهوها علي أتباعهم ففعلت ، أمرها ابن عبد الوهاب أن تحلق رأسها فقالت له حيث أنك تأمر المرأة بحلق رأسها ينبغي لك أن تأمر الرجل بحلق لحيته لأن شعر رأس المرأة زينتها وشعر لحية الرجل زينته فلم يجد لها جوابا . ومما كان منهم أنهم يمنعون الناس من طلب الشفاعة من النبي صلي الله عليه وسلم مع أن أحاديث 

شفاعة النبي صلي الله عليه وسلم لأمته كثيرة متواترة وأكثر شفاعته لأهل الكبائر من أمته وكانوا يمنعون من قراءة دلائل الخيرات المشتملة علي الصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم وعلي ذكرها كثير من أوصافه الكاملة ويقولون إن ذلك شرك ويمنعون من الصلاة عليه صلي الله عليه وسلم علي المنابر بعد الأذان حتي أن رجلا صالحا كان أعمي ، وكان مؤذنا وصلي علي النبي صلي الله عليه وسلم بعد الأذان بعد أن كان المنع منهم ، فأتوا به إلي ابن عبد الوهاب فأمر به أن يقتل فقتل ولو تتبعت لك ما كانوا يفعلونه من أمثال ذلك لملأت الدفاتر والأوراق وفي هذا القدر كفاية والله سبحانه وتعالي أعلم .

 

 


Share
* الاسم:
* البرید الکترونی:
* نص الرأی :
* رقم السری:
  

أحدث العناوین